لابد لكل مذهب نقدي من أساس فكري يستند إليه، ونصوص إبداعية رفيعة ، تُستمد منها مقاييسه الفنية. وإذا كان الأساس الفكري يلتمس عند الفلاسفة والمفكرين، فإن المقاييس الفنية تلتمس عند الأدباء والشعراء. فإذا أردت مثلا أن تبحث عن الأساس الفكري للكلاسيكية فإن عليك أن ترجع إلى سقراط وأفلاطون، وإذا أردت أن ترجع إلى المقاييس الفنية لهذا المذهب، فإن عليك أن ترجع إلى آثار هوميروس وسوفوكليس وأرستوفان، ومن على شاكلتهم، وهكذا بقية المذاهب النقدية.
وفي حالات نادرة جدا يمكنك أن تجد الأسس الفكرية والفنية مجسدة في شخص، كالوجودية التي تجسدت في جان بول سارتر فكرا وفنا، ولكنه مع هذا جسد المقاييس الفنية في مسرحياته المتعددة، وجسد المقاييس الفكرية لهذا المذهب في أعماله الفلسفية.
فإذا جئنا إلى المذهب النقدي الإسلامي الذي ننشده، فإننا يمكن أن نستمد أصوله النظرية وأصوله الفنية معا من مصدر واحد، وهو القرآن الكريم.
إن هذا الكتاب المعجز لا يمثل بالنسبة للمسلمين الأساس الفكري وحده، ولكن يمثل بالنسبة إليهم أيضا الأساس البياني والبلاغي في قمته العليا، ومن بدهيات الدرس البلاغي أن هذا الكتاب معجز بفصاحته وبلاغته.
فإن أردنا أن نقيم أساس مذهب النقد الإسلامي، فلا يكفي أن نستمد من القرآن الكريم التصور الإسلامي وحده، ولكن علينا أيضا أن نستمد منه مقاييس الأسلوب والتعبير والطريقة والنظم، فالقرآن الكريم ارتقى بلغة العرب إلى درجة لم تكن لتبلغها بدونه، وما ينبغي أن نهمل هذا الجانب ونعرض عنه اكتفاء بالأساس الفكري في الذكر الحكيم.
إن دعاة المذاهب النقدية الغربية من بني جلدتنا كانوا يبعثون أصول مذاهبهم الفكرية والفنية وييسرونها للناس، ولا يكتفون بالدعوة إليها وكيل المديح لها، والنفخ من الإبداعات التي تقتفي أثرها.
إن دعاة الكلاسيكية مثلا يسروا للعالم تعليم اللغتين اليونانية واللاتينية ـ وهما لغتا المصادر الأولى ـ في الجامعات وخارجها، وترجموا المصادر الفلسفية والأدبية وأذاعوها بين الناس، وأقاموا حولها دراسات متعددة حتى رسخت جذورها.
وهكذا فعل دعاة كل مذهب نقدي، ولو لم يفعلوا هذا لما قامت لأي مذهب قائمة، ولا كان له وجود في حياتنا الأدبية والنقدية.
وفي تصوري أنه لن يكون لمذهب النقد الإسلامي وجود إذا لم نبعث أصوله الأولى ونقربها للناس، ونقوي صلتهم بها؛ فالقرآن الكريم وما دار حوله من دراسات في التفسير والإعجاز والنقد والبلاغة ينبغي أن تكون الركيزة الأولى لمذهب النقد الإسلامي.
ولا يعني هذا أننا نوصد الباب بيننا وبين التجارب البشرية في مقاييس الفن والإبداع من مختلف العصور، ولكن يعني قبل أن ننفتح على أي جهد بشري في هذا الميدان، يجب أن تكون طريقنا واضحة، فنأخذ من هذه التجارب ما يدعم خبرتنا ووعينا وذوقنا ويزيدها ثراء.
فإذا انفتحنا على هذه الخبرات البشرية الأخرى قبل أن نقوي صلتنا بمصادرنا الأولى اضطربت الرؤية وضللنا الطريق وأصبحنا ـ من حيث لا ندري ـ دعاة المذهب أو ذاك بدلا من أن نكون دعاة للمذهب النقدي الإسلامي.